0

الحقيقة لا أستطيع أن أنكر أن ثمة حوافز أخرى غير الدين قد تطبع المرء بطابعها وتجعله يضحى بسعادته التي يرفل فيها في سبيل غرض رفيع. ولكنك لن تجد إلا الدين وحده هو الذي يضم بين طياته جملة المبادئ التي تصلح أساسا منطقيا للحياة الهانئة المقبولة ‘. ومن حقي أن أقول: إن الإسلام هو الدين الفذ الذي شرح بإسهاب جميع المبادئ التي تصارع أهواء النفس وترد غوائلها وأن آيات القرآن وأحاديث الرسول في هذا المعنى تكون ثروة إنسانية طائلة.. وأنها من الوفرة بحيث تعجز الشهوات مهما طفحت عن اختراقها كما تعجز مياه الفيضان مهما علت عن اجتياز السدود السامقة المنيعة..

 

ثم إن الإسلام شرع للحياة الفردية والاجتماعية من الفرائض والنوافل ورسم لها من المعالم والغايات وحظر عليها من الأمور والتصرفات ما يخلع الإنسان خلعا من أنانيته ويزجه زجا في نطاق حياة أملا بالإخلاص لله والتفاني في مرضاته والاستعداد لملاقاته... والجهلة من الناس يظنون هذه التعاليم الكثيرة مشغلة عن شئون الحياة وعائقا عن تقدم العمران فيها.. وهذا ظن مستغرب! فهل إذا قيل لامرئ: اجعل هدفك من حياتك مرضاة ربك.. كان ذلك دمارا للحياة؟ هل إذا قيل لامرئ: اقهر بواعث الأثرة الصغيرة وتجرد من أثقالها كان ذلك تعطيلا للعمران؟

 

إن بعض الناس يريد هذا... والغباء في فهم الدين قديم. كلما عاب الله على الناس أن يعبدوا ذواتهم ويستغرقوا في طلب العاجلة جاء من يفهم من هذا التوجيه أن الله يريد تخريب الدنيا ونسيان النفس! الحق أن المرء لا يصلح إلها صغيرا على هذا الثرى يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء.. بل أصلح شيء له أن يكون تابعا لإله الأرض والسماء يتجه إليه ويهتدي بوحيه.

 

إن هذه التبعية أو بالتعبير الشرعي هذه العبودية تنظم حياته وتصون يومه وغده وتجعل سعادته المنشودة ثمرة محققة لسيره وفق أوامر الله جل شأنه.. ثم هي أحسن أسلوب لاستثارة قواه واستخراج خيره كما تستثار الأرض الخصبة "أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير".

 

إنني أشعر بسرور غامر عندما أرى نتاج في العقل الإنساني المجرد يلتقي مع معالم الوحي الإلهي وتعاليم الدين الحنيف. وليس ذلك فقط عند إثبات الألوهية ودعم أصول الإيمان. بل عند التلاقي في وصف الطريق إلى الكمال وسرد خطواته الصائبة. إن الإنسان يولد فردا ضعيف القوى صفر المعرفة غفل المشاعر ثم ينمو رويدا حتى يبلغ أشده إن قدر له عمر وطال به الأجل. واكتمال كيانه المادي مثل لاكتمال كيانه المعنوي: إن هو أراد مراتب العلا وسعى لها سعيها. لن يحرز المجد دفعة واحدة ولن ينال ما يبغى بعد شوط قصير..

 

إن إدراك الكمال الإنساني يشبه بلوغ الكمال الفني في أي موضوع.. لابد أن يمر "بمسودات" كثيرة ونماذج متفاوتة. ومعنى هذا أنه لابد من أخطاء تقع ثم يلحقها التصحيح والتقويم حتى يمكن إفراغها فى قالب أفضل. وعندما توضع في القالب الجديد ستبدو بها هنات أو ينكشف عوج لم يكن ملحوظا من قبل فيراد تصحيحها وتقويمها. وعندما يظن أن نصيبها من التجويد قد تم ينكشف من آفاق الكمال ما يجعلها بحاجة إلى مزيد من التحسين.. وهكذا... تظل نفس الإنسان موضوع عنايته ما بقى حيا ينشد الحق ويستزيد من الخير والرفعة..

 

أي أن التربية والتهذيب هما الطريق الوحيد للتقدم والسمو. ولن يستريح أحد من عبء هذه المجاهدة ولا ما تستتبعه من وقوع الخطأ والفرار منه. وربما أفاد المرء دربة بحفر الطريق ومساوئه ومتاهاته من طول ما يعانى في سبيل الحق. بل إن أبصر الناس بالحياة وأعرفهم بأهلها أولئك الذين تمرسوا بصعابها وتعرضوا لأهوالها وعثروا وقاموا وفشلوا ونجحوا وسالموا وخاصموا... ووصلوا إلى النهاية بعد خبرة عميقة بأسباب الصعود والانحدار..!!

 

إن الشيطان نفسه يخشى هؤلاء وذلك معنى الأثر الوارد في فضل عمر بن الخطاب: "لو سلك عمر فجا لسلك الشيطان فجا آخر"! ولأنقل هنا كلمات في شرح الشخصية الإنسانية كتبها الدكتور "هنري لنك" موضحا أفضل الطرق لبلوغ الكمال قال: ‘ تخبط الناس كثيرا في استعمالهم لكلمتي منطو ومنبسط. والواقع أن كليهما مقياس للأنانية أعنى الأنانية المتطرفة في حالة الانطواء والأنانية البسيطة في حالة الانبساط فالمنطوي أو الأناني يتحاشى مقابلة الناس أما المنبسط فيذهب بنفسه لمقابلتهم والتعرف عليهم. المنطوي أو الفردي يتهرب من تكاليف الجماعات والأندية ومطالبها.

 

أما المنبسط الاجتماعي فيتقبلها بصدر رحب وقد يفكر المنطوي في إتيان عمل طيب لكن المنبسط يأتيه بالفعل. ولا يجد الأول الوقت متسعا لعمل ما لا يحب ولكن الثاني يلتمس الدقائق الخيالية ليقوم به. ويخشى الشخص الفردي ارتكاب الأخطاء وبالتالي يفزع من إرباك نفسه فلا يقدم على أية مجازفة ولكن الاجتماعي ولو أنه يخشى الخطأ أيضا إلا أنه يعمل ويثابر فيخطئ فيتعلم ويقاسى ثم يكسب أخيرا المهارة فيما مارسه وتتولد فيه الثقة بالنفس.

 

وكثيرا ما كنت أقول لمرضاي: إن الأفضل أن يرتكبوا سبعة أخطاء بدل أن يرتكبوا خطأ واحدا. فبينما يتردد الرجل الفردي قبل أن يمضى في مشروع ما لشدة شعوره بنقصه تجد الآخر غير مبال بارتكاب الأخطاء لأنه يوقن أنه لن يصل إلى المجد والعظمة من غير هذا الطريق.... ".

 

والانطواء والانبساط عادتان واقعتان تحت سيطرة المرء بلا شك كما يرى الدكتور ولذلك فكل إنسان مسئول عن الطريقة التي يتبعها للتسامي بنفسه على مر الأيام. وهى طريقة قوامها التمرين والجهاد والعمل والمصابرة...

 

وفى التفكير الإسلامي نظرتان بعيدتان عن الحق فيما يتصل بالخطأ والصواب أو النقص والكمال أو الطاعة والمعصية. نظرة تعتبر الخطيئة كفرا بالله وزيغا عن الحق وتبلغ في التنويه بالواجبات المقررة حد التطبيق السطحي لقول الله:"ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا". ونظرة تستهين بالكمال المنشود والأخطاء المقترفة وتقول: "إن الله يغفر الذنوب جميعا".

 

كلتا النظرتين بعيدة عن الحق والواقع. فلا المرء تنقطع حباله بالرشد لخطأ تورط فيه... ولا السعي إلى الكمال يسقط عنه من أجل ذلك... الخطة المثلى التي احترمها علماء الإسلام وساندها التحقيق العلمي أن البشرية تصل إلى مثلها العليا عن طريق تصحيح الخطأ بتعبير علماء النفس أو عن طريقة التوبة المستمرة من كل مخالفة بتعبير علماء الدين . اعمل وقل: "وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين". اعمل وقل: "ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا". امض حيث الخطو نحو هدفك ومهما أخطأت فتشبث بالحزم واستأنف المسير... الكمال أن تسعى لبلوغ الكمال ما بقى في صدرك نفس يتردد!

 

والسقوط في الدنيا والآخرة أن تحتجب عن ناظريك المثل الرفيعة وأن يستولى عليك الإياس والخمول فتقف وتستكين... البطالة رجس من عمل الشيطان... وإن الله ليبارك للمخلصين في جهدهم ولو كان خطأ... فلنعمل في إصرار ولنثق في قول الحق: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”. ذلك والفواصل بين العمل الديني والعمل المدني اصطلاحية تتصل بالمظهر لا بالجوهر. وإلا فأي سلوك إنساني تقارنه النية الخالصة فهو دين.. وكل عمل عبادي تقارنه النية الرديئة فهو رذيلة.

المصدر الاسلام الحق

إرسال تعليق

 
Top